بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله
سؤال يتردد علي ألسنة كثيرين في مجالات مختلفة وأحيانًا شتي.
سؤال اختلف جمهور المسلمين اليوم في الإجابة عليه، واختلف سلوكهم تبعًا لاختلاف أجوبتهم، فمنهم من يفتح أذنيه لكل نوع من أنواع الغناء، ولكل لون من ألوان الموسيقي مدعيًا أن ذلك حلال طيب من طيبات الحياة التي أباح الله لعباده.
ومنهم من يغلق الراديو أو يغلق أذنيه عند سماع أية أغنية قائلا: إن الغناء مزمار الشيطان، ولهو الحديث ويصد عن ذكر الله وعن الصلاة وبخاصة إذا كان المغني امرأة، فالمرأة -عندهم- صوتها عورة بغير الغناء، فكيف بالغناء؟ ويستدلون لذلك بآيات وأحاديث وأقوال.
ومن هؤلاء من يرفض أي نوع من أنواع الموسيقي، حتي المصاحبة لمقدمات نشرات الأخبار.
ووقف فريق ثالث مترددًا بين الفريقين؛ ينحاز إلي هؤلاء تارة، وإلي أولئك طورًا، ينتظر القول الفصل والجواب الشافي من علماء الإسلام في هذا الموضوع الخطير، الذي يتعلق بعواطف الناس وحياتهم اليومية، وخصوصًا بعد أن دخلت الإذاعة –المسموعة والمرئية- علي الناس بيوتهم، بجدها وهزلها، وجذبت إليها أسماعهم بأغانيها وموسيقاها طوعًا وكرهًا.
والغناء بآلة -أي مع الموسيقي- وبغير آلة: مسألة ثار فيها الجدل والكلام بين علماء الإسلام منذ العصور الأولي، فاتفقوا في مواضع واختلفوا في أخري.
اتفقوا علي تحريم كل غناء يشتمل علي فحش أو فسق أو تحريض علي معصية، إذ الغناء ليس إلا كلامًا، فحسنه حسن، وقبيحه قبيح، وكل قول يشتمل علي حرام فهو حرام، فما بالك إذا اجتمع له الوزن والنغم والتأثير ؟
واتفقوا علي إباحة ما خلا من ذلك من الغناء الفطري الخالي من الآلات والإثارة، وذلك في مواطن السرور المشروعة، كالعرس وقدوم الغائب، وأيام الأعياد، ونحوها بشرط ألا يكون المغني امرأة في حضرة أجانب منها.
وقد وردت في ذلك نصوص صريحة – سنذكرها فيما بعد.
واختلفوا فيما عدا ذلك اختلافًا بينا: فمنهم من أجاز كل غناء بآلة وبغير آلة، بل اعتبره مستحبًا، ومنهم من منعه بآلة وأجازه بغير آلة، ومنهم من منعه منعًا باتًا بآلة وبغير آلة وعده حرامًا، بل ربما ارتقي به إلي درجة الكبيرة.
ولأهمية الموضوع نري لزامًا علينا أن نفصل فيه بعض التفصيل، ونلقي عليه أضواء كاشفة لجوانبه المختلفة، حتي يتبين المسلم الحلال فيه من الحرام، متبعًا للدليل الناصع، لا مقلدًا قول قائل، وبذلك يكون علي بينة من أمره، وبصيرة من دينه.
الأصل في الأشياء الإباحة: ـ
قرر علماء الإسلام أن الأصل في الأشياء الإباحة لقوله تعالي: (هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعًا) (البقرة: 29)، ولا تحريم إلا بنص صحيح صريح من كتاب الله تعالي، أو سنة رسوله –صلي الله عليه وسلم- أو إجماع ثابت متيقن، فإذا لم يرد نص ولا إجماع. أو ورد نص صريح غير صحيح، أو صحيح غير صريح، بتحريم شيء من الأشياء، لم يؤثر ذلك في حله، وبقي في دائرة العفو الواسعة، قال تعالي: (وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه). (الأنعام: 119).
وقال رسول الله –صلي الله عليه وسلم-: "ما أحل الله في كتابه فهو حلال، وما حرم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفو، فاقبلوا من الله عافيته، فإن الله لم يكن لينسي شيئا"، وتلا: (وما كان ربك نسيا) (مريم: 64). رواه الحاكم عن أبي الدرداء وصححه، وأخرجه البزار.
وقال: "إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدودًا فلا تعتدوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها" أخرجه الداراقطني عن أبي ثعلبة الخشني. وحسنه الحافظ أبو بكر السمعاني في أماليه، والنووي في الأربعين.
وإذا كانت هذه هي القاعدة فما هي النصوص والأدلة التي استند إليها القائلون بتحريم الغناء، وما موقف المجيزين منها.
أدلة المحرمين للغناء ومناقشتها
استدل المحرمون بما روي عن ابن مسعود وابن عباس وبعض التابعين: أنهم حرموا الغناء محتجين بقول الله تعالي: (ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين). (لقمان: 6) وفسروا لهو الحديث بالغناء.
قال ابن حزم: ولا حجة في هذا لوجوه:
أحدها: أنه لا حجة لأحد دون رسول الله -صلي الله عليه وسلم-.
والثاني: أنه قد خالفهم غيرهم من الصحابة والتابعين.
والثالث: أن نص الآية يبطل احتجاجهم بها؛ لأن الآية فيها: (ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوًا) وهذه صفة من فعلها كان كافرًا بلا خلاف، إذ اتخذ سبيل الله هزوًا.
ولو أن امرأ اشتري مصحفًا ليضل به عن سبيل الله ويتخذه هزوا لكان كافرًا ! فهذا هو الذي ذم الله تعالي، وما ذم قط عز وجل من اشتري لهو الحديث ليتلهي به ويروح نفسه لا ليضل عن سبيل الله تعالي. فبطل تعلقهم بقول كل من ذكرنا وكذلك من اشتغل عامدًا عن الصلاة بقراءة القرآن أو بقراءة السنن، أو بحديث يتحدث به، أو بنظر في ماله أو بغناء أو بغير ذلك، فهو فاسق عاص لله تعالي، ومن لم يضيع شيئًا من الفرائض اشتغالاً بما ذكرنا فهو محسن. (المحلي لابن حزم (9/60) ط المنيرية). أ هـ.
واستدلوا بقوله تعالي في مدح المؤمنين: (وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه) (القصص: 55). والغناء من اللغو فوجب الإعراض عنه.
ويجاب بأن الظاهر من الآية أن اللغو: سفه القول من السب والشتم ونحو ذلك، وبقية الآية تنطق بذلك. قال تعالي: (وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين) (القصص: 55)، فهي شبيهة بقوله تعالي في وصف عباد الرحمن: (وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلامًا). (الفرقان: 63).
ولو سلمنا أن اللغو في الآية يشمل الغناء لوجدنا الآية تستحب الإعراض عن سماعه وتمدحه، وليس فيها ما يوجب ذلك.
وكلمة اللغو ككلمة الباطل تعني ما لا فائدة فيه، وسماع ما لا فائدة فيه ليس محرمًا ما لم يضيع حقًا أو يشغل عن واجب.
روي عن ابن جريج أنه كان يرخص في السماع فقيل له: أيؤتي به يوم القيامة في جملة حسناتك أو سيئاتك ؟ فقال: لا في الحسنات ولا في السيئات؛ لأنه شبيه باللغو، قال تعالي: (لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم). (البقرة: 225، والمائدة: 89).
قال الإمام الغزالي: (إذا كان ذكر اسم الله تعالي علي الشيء علي طريق القسم من غير عقد عليه ولا تصميم، والمخالفة فيه، مع أنه لا فائدة فيه، لا يؤاخذ به، فكيف يؤاخذ بالشعر والرقص ؟!). (إحياء علوم الدين. كتاب السماع ص 1147 ط دار الشعب بمصر).
علي أننا نقول: ليس كل غناء لغوا؛ إنه يأخذ حكمه وفق نية صاحبه، فالنية الصالحة تحيل اللهو قربة، والمزح طاعة، والنية الخبيثة تحبط العمل الذي ظاهره العبادة وباطنه الرياء: "إن الله لا ينظر إلي صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلي قلوبكم وأعمالكم". (رواه مسلم من حديث أبي هريرة، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم ظلم المسلم).
وننقل هنا كلمة جيدة قالها ابن حزم في "المحلي" ردًا علي الذين يمنعون الغناء قال: (احتجوا فقالوا: من الحق الغناء أم من غير الحق ؟ ولا سبيل إلي قسم ثالث، وقد قال الله تعالي: (فماذا بعد الحق إلا الضلال) (يونس: 32). فجوابنا وبالله التوفيق: أن رسول الله –صلي الله عليه وسلم- قال: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوي" (متفق عليه من حديث عمر بن الخطاب، وهو أول حديث في صحيح البخاري). فمن نوي باستماع الغناء عونًا علي معصية الله فهو فاسق وكذلك كل شيء غير الغناء، ومن نوي به ترويح نفسه ليقوي بذلك علي طاعة الله عز وجل، وينشط نفسه بذلك علي البر فهو مطيع محسن، وفعله هذا من الحق. ومن لم ينو طاعة ولا معصية فهو لغو معفو عنه، كخروج الإنسان إلي بستانه، وقعوده علي باب داره متفرجًا، وصبغه ثوبه لازورديًا أو أخضر أو غير ذلك ومد ساقه وقبضها، وسائر أفعاله). (المحلي. 9/60).
جـ- واستدلوا بحديث: "كل لهو يلهو به المؤمن فهو باطل إلا ثلاثة: ملاعبة الرجل أهله، وتأديبه فرسه، ورميه عن قوسه" رواه أصحاب السنن الأربعة، وفيه اضطراب، والغناء خارج عن هذه الثلاثة.
وأجاب المجوزون بضعف الحديث، ولو صح لما كان فيه حجة، فإن قوله: "فهو باطل" لا يدل علي التحريم بل يدل علي عدم الفائدة. فقد ورد عن أبي الدرداء قوله: إني لأستجم نفسي بالشيء من الباطل ليكون أقوي لها علي الحق. علي أن الحصر في الثلاثة غير مراد، فإن التلهي بالنظر إلي الحبشة وهم يرقصون في المسجد النبوي خارج عن تلك الأمور الثلاثة، وقد ثبت في الصحيح. ولا شك أن التفرج في البساتين وسماع أصوات الطيور، وأنواع المداعبات مما يلهو به الرجل، ولا يحرم عليه شيء منها، وإن جاز وصفه بأنه باطل.
واستدلوا بالحديث الذي رواه البخاري -معلقا- عن أبي مالك أو أبي عامر الأشعري -شك من الراوي- عن النبي -عليه السلام- قال: "ليكونن قوم من أمتي يستحلون الحر (الحر: أي الفرج والمعني يستحلون الزني). والحرير والخمر والمعازف". والمعازف: الملاهي، أو آلات العزف.
والحديث وإن كان في صحيح البخاري، إلا أنه من "المعلقات" لا من "المسندات المتصلة" ولذلك رده ابن حزم لانقطاع سنده، ومع التعليق فقد قالوا: إن سنده ومتنه لم يسلما من الاضطراب، فسنده يدور علي (هشام بن عمار) (انظر: الميزان وتهذيب التهذيب). وقد ضعفه الكثيرون.
ورغم ما في ثبوته من الكلام، ففي دلالته كلام آخر؛ إذ هو غير صريح في إفادة حرمة "المعازف" فكلمة "يستحلون" –كما ذكر ابن العربي- لها معنيان: أحدهما: يعتقدون أن ذلك حلال، والثاني: أن يكون مجازًا عن الاسترسال في استعمال تلك الأمور، إذ لو كان المقصود بالاستحلال: المعني الحقيقي، لكان كفرًا.
ولو سلمنا بدلالتها علي الحرمة لكان المعقول أن يستفاد منها تحريم المجموع، لا كل فرد منها، فإن الحديث في الواقع ينعي علي أخلاق طائفة من الناس انغمسوا في الترف والليالي الحمراء وشرب الخمور. فهم بين خمر ونساء، ولهو وغناء، وخز وحرير. ولذا روي ابن ماجة هذا الحديث عن أبي مالك الأشعري بلفظ: "ليشربن أناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها يعزف علي رؤوسهم بالمعازف والمغنيات يخسف الله بهم الأرض ويجعل منهم القردة والخنازير"، وكذلك رواه ابن حبان في صحيحه.
هـ- واستدلوا بحديث: "إن الله تعالي حرم القينة (أي الجارية) وبيعها وثمنها وتعليمها".
والجواب عن ذلك:
أولا: أن الحديث ضعيف.
ثانيا: قال الغزالي: المراد بالقينة الجارية التي تغني للرجال في مجلس الشرب، وغناء الأجنبية للفساق ومن يخاف عليهم الفتنة حرام، وهم لا يقصدون بالفتنة إلا ما هو محظور. فأما غناء الجارية لمالكها، فلا يفهم تحريمه من هذا الحديث. بل لغير مالكها سماعها عند عدم الفتنة، بدليل ما روي في الصحيحين من غناء الجاريتين في بيت عائشة رضي الله تعالي عنها. (الإحياء ص 1148) وسيأتي.
ثالثا: كان هؤلاء القيان المغنيات يكون عنصرًا هامًا من نظام الرقيق، الذي جاء الإسلام بتصفيته تدريجيًا، فلم يكن يتفق وهذه الحكمة إقرار بقاء هذه الطبقة في المجتمع الإسلامي، فإذا جاء حديث بالنعي علي امتلاك "القينة" وبيعها، والمنع منه، فذلك لهدم ركن من بناء "نظام الرق" العتيد.
واستدلوا بما روي نافع أن ابن عمر سمع صوت زمارة راع فوضع أصبعيه في أذنيه، وعدل راحلته عن الطريق، وهو يقول: يا نافع، أتسمع ؟ فأقول: نعم، فيمضي، حتي قلت: لا. فرفع يده وعدل راحلته إلي الطريق وقال: "رأيت رسول الله يسمع زمارة راع فصنع مثل هذا" رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة.
والحديث قال عنه أبو داود: حديث منكر.
ولو صح لكان حجة علي المحرمين لا لهم. فلو كان سماع المزمار حرامًا ما أباح النبي -صلي الله عليه وسلم- لابن عمر سماعه، ولو كان عند ابن عمر حرامًا ما أباح لنافع سماعه، ولأمر عليه السلام بمنع وتغيير هذا المنكر، فإقرار النبي -صلي الله عليه وسلم- لابن عمر دليل علي أنه حلال.
وإنما تجنب عليه السلام سماعه كتجنبه أكثر المباح من أمور الدنيا كتجنبه الأكل متكئًا وأن يبيت عنده دينار أو درهم .... إلخ.
واستدلوا أيضًا لما روي: "إن الغناء ينبت النفاق في القلب" ولم يثبت هذا حديثًا عن النبي -صلي الله عليه وسلم-، وإنما ثبت قولاً لبعض الصحابة، فهو رأي لغير معصوم خالفه فيه غيره، فمن الناس من قال -وبخاصة الصوفية- إن الغناء يرقق القلب، ويبعث الحزن والندم علي المعصية، ويهيج الشوق إلي الله تعالي، ولهذا اتخذوه وسيلة لتجديد نفوسهم، وتنشيط عزائمهم، وإثارة أشواقهم، قالوا: وهذا أمر لا يعرف إلا بالذوق والتجربة والممارسة، ومن ذاق عرف، وليس الخبر كالعيان.
علي أن الإمام الغزالي جعل حكم هذه الكلمة بالنسبة للمغني لا للسامع، إذ كان غرض المغني أن يعرض نفسه علي غيره ويروج صوته عليه، ولا يزال ينافق ويتودد إلي الناس ليرغبوا في غنائه. ومع هذا قال الغزالي: وذلك لا يوجب تحريمًا، فإن لبس الثياب الجميلة، وركوب الخيل المهلجة، وسائر أنواع الزينة، والتفاخر بالحرث والأنعام والزرع وغير ذلك، ينبت النفاق في القلب، ولا يطلق القول بتحريم ذلك كله، فليس السبب في ظهور النفاق في القلب المعاصي فقط، بل المباحات التي هي مواقع نظر الخلق أكثر تأثيرًا (الإحياء ص 1151) .
واستدلوا علي تحريم غناء المرأة خاصة، بما شاع عند بعض الناس من أن صوت المرأة عورة. وليس هناك دليل ولا شبه دليل من دين الله علي أن صوت المرأة عورة، وقد كان النساء يسألن رسول الله -صلي الله عليه وسلم- في ملأ من أصحابه وكان الصحابة يذهبون إلي أمهات المؤمنين ويستفتونهن ويفتينهم ويحدثنهم، ولم يقل أحد: إن هذا من عائشة أو غيرها كشف لعورة يجب أن تستر.
فإن قالوا: هذا في الحديث العادي لا في الغناء، قلنا: روي الصحيحان أن النبي سمع غناء الجاريتين ولم ينكر عليهما، وقال لأبي بكر: دعهما. وقد سمع ابن جعفر وغيره من الصحابة والتابعين الجواري يغنين.
والخلاصة: أن النصوص التي استدل بها القائلون بالتحريم إما صحيح غير صريح، أو صريح غير صحيح. ولم يسلم حديث واحد مرفوع إلي رسول الله يصلح دليلاً للتحريم، وكل أحاديثهم ضعفها جماعة من الظاهرية والمالكية والحنابلة والشافعية.
قال القاضي أبو بكر بن العربي في كتاب "الأحكام": لم يصح في التحريم شيء.
وكذا قال الغزالي وابن النحوي في العمدة.
وقال: ابن طاهر: لم يصح منها حرف واحد.
وقال ابن حزم: كل ما رُوي فيها باطل وموضوع.
أدلة المجيزين للغناء:
تلك هي أدلة المحرمين، وقد سقطت واحدًا بعد الآخر، ولم يقف دليل منها علي قدميه، وإذا انتفت أدلة التحريم بقي حكم الغناء علي أصل الإباحة بلا شك، ولو لم يكن معنا نص أو دليل واحد علي ذلك غير سقوط أدلة التحريم. فكيف ومعنا نصوص الإسلام الصحيحة الصريحة، وروحه السمحة، وقواعده العامة، ومبادئه الكلية ؟
وهاك بيانها:
أولا: من حيث النصوص:
استدلوا بعدد من الأحاديث الصحيحة، منها: حديث غناء الجاريتين في بيت النبي -صلي الله عليه وسلم- عند عائشة، وانتهار أبي بكر لهما، وقوله: مزمور الشيطان في بيت النبي -صلي الله عليه وسلم-، وهذا يدل علي أنهما لم تكونا صغيرتين كما زعم بعضهم، فلو صح ذلك لم تستحقا غضب أبي بكر إلي هذا الحد.
والمعول عليه هنا هو رد النبي -صلي الله عليه وسلم- علي أبي بكر -رضي الله عنه- وتعليله: أنه يريد أن يعلم اليهود أن في ديننا فسحة، وأنه بعث بحنيفية سمحة. وهو يدل علي وجوب رعاية تحسين صورة الإسلام لدي الآخرين، وإظهار جانب اليسر والسماحة فيه.
وقد روي البخاري وأحمد عن عائشة أنها زفت امرأة إلي رجل من الأنصار فقال النبي -صلي الله عليه وسلم-: "يا عائشة، ما كان معهم من لهو ؟ فإن الأنصار يعجبهم اللهو".
وروي ابن ماجة عن ابن عباس قال: أنكحت عائشة ذات قرابة لها من الأنصار فجاء رسول الله فقال: "أهديتم الفتاة ؟" قالوا: نعم قال: "أرسلتم معها من يغني ؟" قالت: لا. فقال رسول الله -صلي الله عليه وسلم-: "إن الأنصار قوم فيهم غزل، فلو بعثتم معها من يقول: أتيناكم أتيناكم .. فحيانا وحياكم ؟!
وروي النسائي والحاكم وصححه عن عامر بن سعد قال: دخلت علي قرظة بن كعب وأبي مسعود الأنصاري في عرس، وإذا جوار يغنين. فقلت: أي صاحبي رسول الله أهل بدر يفعل هذا عندكم ؟! فقالا: اجلس إن شئت فاستمع معنا، وإن شئت فاذهب، فإنه قد رخص لنا اللهو عند العرس.
وروي ابن حزم بسنده عن ابن سيرين: أن رجلاً قدم المدينة بجوار فأتي عبد الله بن جعفر فعرضهن عليه، فأمر جارية منهن فغنت، وابن عمر يسمع، فاشتراها ابن جعفر بعد مساومة، ثم جاء الرجل إلي ابن عمر فقال: يا أبا عبد الرحمن، غبنت بسبعمائة درهم ! فأتي ابن عمر إلي عبد الله بن جعفر فقال له: إنه غبن بسبعمائة درهم، فإما أن تعطيها إياه، وإما أن ترد عليه بيعه، فقال: بل نعطيه إياها. قال ابن حزم: فهذا ابن عمر قد سمع الغناء وسعي في بيع المغنية، وهذا إسناد صحيح لا تلك الأسانيد الملفقة الموضوعة.
واستدلوا بقوله تعالي: (وإذا رأوا تجارة أو لهو انفضوا إليها وتركوك قائمًا قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة والله خير الرازقين). (الجمعة: 11).
فقرن اللهو بالتجارة، ولم يذمهما إلا من حيث شغل الصحابة بهما -بمناسبة قدوم القافلة وضرب الدفوف فرحًا بها- عن خطبة النبي -صلي الله عليه وسلم-، وتركه قائمًا.
واستدلوا بما جاء عن عدد من الصحابة -رضي الله عنهم- أنهم باشروا السماع بالفعل أو أقروه. وهم القوم يقتدي بهم فيهتدي.
واستدلوا لما نقله غير واحد من الإجماع علي إباحة السماع، كما سنذكره بعد.
وثانيا: من حيث روح الإسلام وقواعده:
لا شيء في الغناء إلا أنه من طيبات الدنيا التي تستلذها الأنفس، وتستطيبها العقول، وتستحسنها الفطر، وتشتهيها الأسماع، فهو لذة الأذن، كما أن الطعام الهنيء لذة المعدة، والمنظر الجميل لذة العين، والرائحة الذكية لذة الشم ... إلخ، فهل الطيبات أي المستلذات حرام في الإسلام أم حلال ؟
من المعروف أن الله تعالي كان قد حرم علي بني إسرائيل بعض طيبات الدنيا عقوبة لهم علي سوء ما صنعوا، كما قال تعالي: (فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرًا. وأخذهم الربا وقد نهو عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل) (النساء: 160، 161). فلما بعث الله محمدًا –صلي الله عليه وسلم- جعل عنوان رسالته في كتب الأولين (الذي يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم). (الأعراف: 157).